سورة المائدة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}
بسْم الله الرحمن الرحيم. {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام وجبه، ويقال: وفى ووفى وأوفى عنى، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد، وأصل العقد الربط محكمًا، ثم تجوز به عن العهد الموثق، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد «بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين، والعهد قد يتفرد به واحد» واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال: أحدها: أن المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وثانيها: العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الأيمان وعقد النكاح وعقد البيع ونحو ذلك، وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن أسلم، وثالثها: العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم، وروي ذلك عن مجاهد والربيع وقتادة. وغيرهم؛ ورابعها: العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضي التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وا جاء به، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح، وعليه فالمراد من الذين آمنوا مؤمنو أهل الكتاب؛ وهو خلاف الظاهر، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينًا، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبًا أو وجوبًا، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.
واستظهر الزمخشري كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه كما في الكشف من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع، ولو لم يكن إلا {عَلَى البر البر والتقوى} [المائدة: 2] و{اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] لكفى، وتعقب بما لا يخلو عن نظر.
وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء، وما استظهره الزمخشري خال عن ذلك، والأمر فيه هين، وفي القول بالعموم رغب الراغب كما هو الظاهر فقد قال: العقود باعتبار المعقود، والعاقد ثلاثة أضرب، عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه إما ببديهة العقل، وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ} [الأعراف: 172] الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أضرب: فالأول: واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول: عليّ أن أصوم إن عافاني الله تعالى، والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث: يستحب ترك الوفاء به، وهو ما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرًا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه»، والرابع: واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول: علي أن أقتل فلانًا المسلم، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربًا، وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبًا فافهم ولا تغفل.
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش، والبهيمة من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقًا، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وسمي بهيمة لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه. ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. وقال غير واحد: البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها، واعترض بأن البهيمة اسم جنس، والأنعام نوع منه، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة كمدينة بغداد فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان مسماه وتوضيحه وكشجر الأراك فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل، ولذا لا يقال: النَّعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بهما الظباء وبقر الوحش، وقيل: هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وروي ذلك عن الكلبي.
والفراء، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها عنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصًا بينهما، أو عنى من البيانية على جعل المشبه نفسه المشبه به، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل: أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم، وقيل: المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم فيكون مفاد الآية صريحًا حل أكلها، وبه قال الشافعي، واستدل عليه بغير ما خبر، ويفهم منها حل الأنعام، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر.
وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا: لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصًا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم. وزعموا لعنهم الله تعالى أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداءًا بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف. وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر، ونسب نحوًا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون، ولايخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم، وأجاب المعتزلة بما ردّه أهل السنة، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام، وكذا القول بالنور والظلمة، وقال بعض المحققين: لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلًا جعل شيء مما دونه غداءًا له مأذونًا بذبحه وإيلامه اعتناءًا صلحته حسا تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار، وقال بعض الناس: الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان.
نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} مجمل للجهل عناه قبل نزول مبينه، ويسري الإجمال إلى ما تقدم، ولكن ذاك ليس محل النزاع، والاستثناء متصل من بهيمة بتقدير مضاف محذوف مما يتلي أي إلا محرم ما يتلى عليكم، وعنى بالمحرم الميتة وما أهل لغير الله به إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة، أو من فاعل يتلى أي إلا ما يتلى عليكم آية محرمة لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد؛ وأما جعله مفرغًا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد كما قال الشهاب جدًا؛ وذهب بعضم إلى أنه منقطع بناءًا على الظاهر لأن المتلو لفظ، والمستثنى منه ليس من جنسه؛ والأكثرون على الأول، ومحل المستثنى النصب، وجوز الرفع على ما حقق في النحو.
{غَيْرَ مُحِلّى الصيد} حال من الضمير في لكم على ما عليه أكثر المفسرين، والصيد يحتمل المصدر والمفعول، وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} حال عما استكن في محل والحرم جمع حرام وهو المحرم، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد، أو أكل الصيد في الإحرام، وفسر الزمخشري عدم إحلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال: كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وأنتم حرم لئلا يكون عليكم حرج، ولم يحمل الإحلال على اعتقاد الحل ظنًا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه، وقد يقال: إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشيء من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الإربلي رحمة الله تعالى عليهم.
واعترض في البحر على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد أحلت لهم مطلقًا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانًا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانًا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.
وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك، ودفعه العلامة الثاني بأن المراد من الأنعام ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازًا أو تغليبًا أو دلالة أو كيفما شئت، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة غابة التنزيل أن يقصده من مراصد عباراته، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب غير على الحالية من ضمير أوفوا وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو واجب أو مندوب في الحج، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال مع أنهم مأمورون طلق العقود مطلقًا وجه.
وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظًا، واستدل عليه بما هو على طرف الثمام، ثم قال: ومنهم من جعله حالًا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} ويستلزم جعل {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أيضًا حالًا من مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ. وتعقبه أبوحيان «بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسيًا منسيًا فلا يجوز وقوع الحال منه، قد قالوا لو قلت: أنزل الغيث مجيبًا لدعائهم على أن مجيبًا حال من فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين: بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن في التقييد أيضًا مقالًا، وجعله بعضهم حالًا من الضمير المجرور في عليكم ويريده أن الذي يتلى لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم، بل هو يتلي عليهم في هذه الحال وفي غيرها»، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن النصب على الاستثناء، وذكر أن فيه تعسفًا، وبينه مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان استثناءًا لكان إما من الضمير في لكم أو في {أَوْفُواْ} إذ لا جواز لاستثنائه من بهيمة الأنعام وعلى الأول: يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها، أو تبقى على العموم لكن بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء، وأن يجعل قوله تعالى: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} من تتمة المستثنى بأن يكون حالًا عما استكن في محلي ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين الاعتبارين، فسوق العبارة يقتضي أن يقال: وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين، واعتبار الالتفات هنا بعيد لكونه رافعًا فيما هو نزلة كلمة واحدة، وعلى الثاني: يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج، وتأويل الكلام الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالأجنبي، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى، وكأنه رحمه الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء، مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد كما قاله القرطبي.
وأبو حيان لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال، نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من بهيمة الأنعام على وجه عينه؛ وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه الله تعالىك إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم محلي بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصل غير محلين الصيد. والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل، والمحلّ صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف، ووصف الصيد بأنه محل، إما عنى داخل في الحل كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل، وأحرم أي دخل في الحرم، أو عنى صار ذا حل أي حلالًا بتحليل الله تعالى، ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب، فمن الأول: أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم، ومن الثاني: أعشبت الأرض وأبقلت، وأغد البعير، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلًا باعتبار أحد الوجهين اتضح كونه استثناءًا ثانيًا، ثم إن كان المراد ببهيمة الأنعام أنفسها فهو استثناء منقطع، أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين، فإن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضًا؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم. فإن قلت: ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء والوقف عليه بها. قلت: قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو {لاَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] بالألف، والوقف اتبعوا فيه الرسم. انتهى.
وتعقبه السفاقسي ثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء، وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرّون من زيادة أو نقصان في الرسم، فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس، وقال الحلبي: إن فيه خرقًا للإجماع فإنهم لم يعربوا {غَيْرِ} إلا حالًا، وإنما اختلفوا في صاحبها، ثم قال السفاقسي: ويمكن فيه تخريجان: أحدهما أن يكون {غَيْرِ} استثناءًا منقطعًا، ومحلي جمع على بابه، والمراد به الناس الداخلون حل الصيد، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد، والثاني: أن يكون متصلًا من بهيمة الأنعام وفي الكلام حذف مضاف، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وأنتم حرم فلا يحل، ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل، ويكون الاستثناء متصلًا والمضاف محذوف، أي إلا صيد محلى الاصطياد وأنتم حرم، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل، ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقًا، ويحتمل أن يكون حالًا من ضمير {لَكُمْ} وحذف المعطوف للدلالة عليه وهو كثير، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي والبرد، وهو تخريج حسن. هذا ولا يخفى أن يد الله تعالى مع الجماعة، وأن ما ذكره غيرهم لا يكاد يسلم من الاعتراض.
{إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} من الأحكام حسا تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار، فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولًا أوليًا، وضمن يحكم معنى يفعل، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالباء.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}
{يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان حرمة إحلال سائر الشعائر، وهو جمع شعيرة، وهي اسم لما أشعر، أي جعل شعارًا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وإضافتها إلى الله تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها، والمراد منه التهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبني المتنسكين بها، وروي عن عطاء أنه فسر الشعائر عالم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام، وقيل: هي الصفا والمروة، والهدي من البدن وغيرها، وروي ذلك عن مجاهد.
{وَلاَ الشهر الحرام} أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما روي عن ابن عباس وقتادة أو بالنسيء كما نقل عن القتيبي، والأول هو الأولى بحال المؤمنين. واختلف في المراد منه فقيل: رجب، وقيل: ذو القعدة، وروي ذلك عن عكرمة، وقيل: الأشهر الأربعة الحرم، واختاره الجبائي والبلخي، وإفراده لإرادة الجنس {وَلاَ الهدى} بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من أن يبلغ محله، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء، وهو جمع هدية كجدي وجدية وهي ما يحشى تحت السرج والرحل، وخص ذلك بالذكر بناءًا على دخوله في الشعائر لأن فيه نفعًا للناس، ولأنه مال قد يتساهل فيه، وتعظيمًا له لأنه من أعظمها {وَلاَ القلائد} جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن، وخصت بالذكر تشريفًا لها واعتناءًا بها، أو التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس القلائد، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة، وروي ذلك عن الحسن، وروى عن السدي أن المراد من القلائد: أصحاب الهدي فإن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل كة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله، وقال الفراء: أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما، وعن الربيع.
وعطاء أن المراد نهي المؤمنين أن ينزعوا شيئًا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم.
{وَلا ءامّينَ البيت الحرام} أي ولا تحلوا أقوامًا قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو أذى قوم آمين. وقرئ ولا آمي البيت الحرام بالإضافة، و{البيت} مفعول به لا ظرف، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر، وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّن رَّبّهِمْ ورضوانا} حال من المستكن في آمين، وجوز أن يكون صفة، وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره، وتنكير {فضلًا} و{رضوانًا} للتفخيم، ومن ربهم متعلق بنفس الفعل، أو حذوف وقع صفة لفضلًا مغنية عن وصف ما عطف عليه بها، أي فضلًا كائنًا من ربهم ورضوانًا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم، والمراد بهم المسلمون خاصة، والآية محكمة. وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار النهي عنه كذا قيل، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقًا سواء كانوا آمين أم لا، فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال، ولذا قال الحسن وغيره: المراد بالآمين هم المشركون خاصة، والمراد من الفضل حينئذ الربح في تجاراتهم، ومن الرضوان ما في زعمهم، ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضًا لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى، ويؤيد هذا القول أن الآية نزلت كما قال السدي وغيره في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم بن هند، وذلك أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال: «إلى مه تدعو الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة» فقال: حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرًا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان» ثم خرج من عنده، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر وما الرجل سلم»، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:
قد لفها الليل بسواق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بخوار على ظهر قطم *** باتوا نيامًا وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** مدملج الساقين ممسوح القدم
فطلبه المسلمون فعجزوا، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه» وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديًا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا وروي عن ابن زيد أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم، فأنزل الله سبحانه الآية.
واختلف القائلون بأن المراد من الآمين: المشركون في النسخ وعدمه، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدىء المشركون في الأشهر الحرم بالقتال، وأنت تعلم أن الآية ليست نصًا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم، وقال أبو مسلم: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28]، وقيل: بآية السيف، وقيل: بهما، وقيل: لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين: ما يعم المسلمين والمشركين، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة. وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصًا كما حقق في الأصول، ولا بدّ على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، وقرأ حميد بن قيس الأعرج {تَبْتَغُونَ} بالتاء على خطاب المؤمنين، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في {لاَ تُحِلُّواْ} على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم، وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفي وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط، وقال شيخ الإسلام: إن إضافة الرب إلى ضمير آمين على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} {فاصطادوا} أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير. وقال صاحب القواطع: إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن، ونقله ابن برهان في الوجيز عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة، ثانيها: أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه، ووروده بعد الحظر لا تأثير له، وهو اختيار القاضي أبي الطيب الطبري في شرح الكفاية والشيخ أبي إسحاق وابن السمعاني والإمام في المحصول، ونقله الشيخ أبو حامد الإسفرايني في كتابه عن أكثر الشافعية، ثم قال: وهو قول كافة الفقهاء، وأكثر المتكلمين، وثالثها: الوقف بينهما، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداءًا من غير تقدم حظر، ولا يبعد على ما قاله الزركشي أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب.
ومن قال: إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال: إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب، وقيل: إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل: اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء، وقرئ أحللتم وهو لغة في حل، وعن الحسن أنه قرئ {فاصطادوا} بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس، وقيل: إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء، وإن كانت من المستعلية.
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما، وأنشدوا له بقوله:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن تغضبا
فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه، وإلى الآخر بعلى، وقال الفراء وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم، وجرم جار مجرى كسب في المعنى، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال: جرم ذنبًا نحو كسبه، وجرمته ذنبًا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبًا في كسب ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني، ومنه الجريمة، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبًا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال: أكسبته ذنبًا، وعليه قراءة عبد الله لا يجرمنكم بضم الياء {شَنَانُ قَوْمٍ} بفتح النون؛ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، وإسماعيل عن نافع بسكونها، وفيهما احتمالان: الأول: أن يكونا مصدرين عنى البغض أو شدته شذوذًا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة كجولان ولا يكون لفعل متعد كما قال: س، وهذا متعد إذ يقال: شنئته، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو لويته ليانًا عنى مطلته، والثاني: أن يكون صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلًا كحمار قطوان عسر السير، وتيس عدوان كثير العدو فإن كان مصدرًا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قومًا، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم، والأول أظهر كما في البحر وإن كان وصفًا فهو عنى بغيض، وإضافته بيانية وليس مضافًا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم.
{أَن صَدُّوكُمْ} بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة للشنآن أي لأن صدوكم عام الحديبية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن أن شرطية، وما قبلها دليل الجواب، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة. وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض، وذلك كقوله تعالى: {أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم بعد ظهور الإسلام وقوته، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى {عَنِ المسجد الحرام} أي عن زيارته والطواط به للعمرة، وهذه كما قال شيخ الإسلام آية بينة في عموم آمّين للمشركين قطعًا، وجعلها البعض دليلًا على تخصيصه بهم {أَن تَعْتَدُواْ} أي عليهم، وحذف تعويلًا على الظهور، وإيماءًا إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا، والمحل بعده إما جر، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي، أو لا حذف، والمنسبك ثاني مفعولي يجرمنكم أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيًا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية، ويقال: لا أرينك هاهنا والمقصود نهى المخاطب على الحضور.
ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجًا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلًا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ. وقال شيخ الإسلام: لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى، ولعله الأولى.
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} عطف على {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} من حيث المعنى كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء. وقال بعضهم: هو استئناف والوقف على أن تعتدوا لازم، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقًا، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلًا للكلام، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج، فقد قال تعالى: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] ويدخل العفو والإغضاء أيضًا دخولًا أوليًا، وعلى العموم أيضًا حمل قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} فيعم النهي كل ماهو من مقولة الظلم والمعاصي، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان جاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات.
وقوله تعالى: {واتقوا الله} أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.
{أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن لا يتفيه، وهذا في موضع التعليل لما قبله، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة.


{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}
{حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] والمراد تحريم أكل الميتة، هي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه {والدم} أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح، وأما الطحال فالأكثرون على إباحته، وأجمعت الإمامية على حرمته، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود رضي الله تعالى عنه {وَلَحْمَ الخنزير} إقحام اللحم لما مر، وأخذ داود. وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال: «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غيرب، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار، وفيه تأمل {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالاهلال هنا ذكر ما يذبح له كاللات. والعزى {والمنخنقة} قال السدى: هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وقال الضحاك. وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقًا {والموقوذة} أي التي تضرب حتى تموت، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقتادة. والسدى، وهو من وقذته عنى ضربته، وأصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه {والمتردية} أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت {والنطيحة} أي التي ينطحها غيرها فتموت، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل عنى مفعول لا يدخله التاء، وقال بعض الكوفيين: إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل كف خضيب. وعين كحيل وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل، وقرئ والمنطوحة {وَمَا أَكَلَ السبع} أي ما أكل منه السبع فمات؛ وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه، وعن السيدين السندين الباقر. والصادق رضي الله تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن. أو الذنب. أو الجفن، وبه قال الحسن. وقتادة. وإبراهيم. وطاوس. والضحاك. وابن زيد، وقال بعضهم: يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته، وعن علي كرم الله تعالى وجهه.
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة. والدم. والخنزير. وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره، وقيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم.
وروي ذلك عن مالك. وجماعة من أهل المدينة، واختاره الجبائي، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء حدد، والتفصيل في الفقه، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل.
وقرأ الحسن: {السبع} بسكون الباء، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأكيل السبع.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} جمع نصاب كحمر. وحمار، وقيل: واحد الأنصاب كطنب وأطناب، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلثمائة وستين حجرًا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها فعلى على أصلها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى؛ وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى، و{على} إما عنى اللام، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام.
واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} والأمر في ذلك هين، والموصول معطوف على المحرمات، وقرئ {النصب} بضم النون وتسكين الصاد تخفيفًا، وقرئ بفتحتين، وبفتح فسكون {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ} جمع زلم كجمل أو زلم كصرد وهو القدح، أي وحرم عليكم الاستقسام بالاقداح وذلك أنهم كما روي عن الحسن. وغيره إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي. وأبقوا الثالث غفلًا لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم، وإن خرج الناهي تجنبوا، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيًا، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل.
وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حرامًا، وقيل: لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد بربي الله تعالى، وجهالة وشركًا إن أريد به الصنم، وقيل: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب انه لا يعلم إلا منه، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعًا حرامًا بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى، ولهذا أطبقوا على جوازها.
ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حرامًا لا نسد طريق الفكر والرياضة، ولا قائل به.
وقال الإمام رحمه الله تعالى: لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرًا لأنه طلب للغيب، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للالهامات كفارًا، ومعلوم أن كل ذلك باطل، وتعقب القول بجواز الاستخارة بالقرآن بأنه لم ينقل فعلها عن السلف، وقد قيل: إن الإمام مالكًا كرهها. وأما ما في فتاوي الصوفية نقلًا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم الله تعالى وجهه. ومعاذ رضي الله تعالى عنه.
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] سبع مرات، وليقل ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك، ثم يتفاءل بأول الصحيفة ففي النفس منه شيء.
وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه، ولا يرد أن القرعة في جازت في قسمة الغنائم مثلًا، وفي إخراج النساء لأنا نقول: إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة، وأما الحرية الواقعة على واحد من العبيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره، وفي استعمال القرعة النقل، وخالف الشافعي في ذلك، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره، وظواهر الأدلة معه وتحقيق ذلك في موضعه.
والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد، وأنه لا يخلو عن تشاؤم، وليس بتفاؤل محض، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلًا بل هو من باب الدخول في الظن، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول، وتركها أحب إلي لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولًا فيه، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في «شرح مسلم» عن القاضي كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب.
أحدها: أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم الثاني: أن يخبره بما يطرأ ويكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة. وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام، الثالث: المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى في بعض الناس قوة مّا لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها كالزجر. والطرق بالحصى وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى.
ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم، وقيل: المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله تعالى له منه، وهذا هو الميسر وقد تقدم بيانه، وروى ذلك علي بن إبراهيم عن الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج {ذلكم} أي الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر {فِسْقٌ} أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن {ذلكم} إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق {اليوم} أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية، وقيل: يوم نزول الآية، وروي ذلك عن ابن جريج. ومجاهد. وابن زيد، وكان كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع، وقيل: يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى: {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} والياس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها، أو من أن يعلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفي بوعده حيث أظهره على الدين كله.
وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلى الله عليه وسلم في الموقف فلم ير إلا مسلمًا، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس {واخشون} أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه، وهذا كما تقول: تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعن ابن عباس. والسدى أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي. وفرائضي. وحلالي. وحرامي بتنزيل ما أنزلت. وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع، واختاره الجبائي. والبلخي. وغيرهما، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يومًا، ومضى روحي فداه إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم.
وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة «أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت» ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال القياس كما زعم بعضهم لأن المراد إكمال الدين نفسه بيان ما يلزم بيانه، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد، وروي عن سعيد بن جبير. وقتادة أن المعنى {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ} حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين واختاره الطبري وقال: يرد على ما روي عن ابن عباس. والسدي رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضًا تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} وليس الجار فيه متعلقًا بنعمتي لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله، وقيل: متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفًا، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة، ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكها، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان، وقيل: بإتمام الهداية والتوفيق باتمام سببهما، وقيل: بإكمال الدين، وقيل: بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحدًا قبلهم، وقيل: معنى {أَتْمَمْتَ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} أي اخترته لكم من بين الأديان، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار.
وأخرج ابن جبير عن قتادة قال: «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول: رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول: إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي» وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذي عدى باللام، ومنهم من جعل الجار صفة لدين قدم عليه فانتصب حالا، و{الإسلام} و{دِينًا} مفعولًا {رضيت} إن ضمن معنى صير، أو {الإسلام دِينًا} منصوب على الحالية من الإسلام، أو تميين من {لَكُمْ} والجملة على ما ذهب إليه الكرخي مستأنفة لا معطوفة على {أَكْمَلْتُ} وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرضى لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينًا، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل دينًا مرضيًا لله تعالى. وللنبي صلى الله عليه وسلم. وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع. والجمهور على العطف، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكمًا أبديًا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم، وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير خم: من كنت مولاه فعلى مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي، ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر، نعم ثبت عندنا أنه صلى الله عليه وسلم قال في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك: من كنت مولاه فعلى مولاه وزاد على ذلك كما في بعض الروايات لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء الله تعالى غير بعيد.
وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها، وقد أكثر منها يوسف إلا والى عليه ما عليه {فَمَنِ اضطر} متصل بذكر المحرمات وما بينهما، وهو سبع جمل على ما قال الطيبي اعتراض بما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسق عظيم، وحرمتها في جملة الدين الكامل.
والنعمة التامة. والإسلام المرضى، والاضطرار الوقوع في الضرورة، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات {فِى مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها الموت أو مباديه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدًا على ما يمسك رمقه، فإن ذلك حرام كما روي عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة رضي الله تعالى عنهم وبه قال أهل العراق، وقال أهل المدينة: يجوز أن يشبع عند الضرورة، وقيل: المراد غير عاص بأن يكون باغيًا، أو عاديًا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجًا في معصيته، وروي هذا أيضًا عن قتادة {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة، وقد أقيم سببه مقامه، وقيل: إنه مقدر في الكلام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8